المشهد تيفي قناة إلكترونية مغربية متجددة على مدار الساعة

رحلة في شوارع باريس

هند جوهري 

في ليلة ماطرة باردة كالصقيع، ارتديت معطفي الأحمر الجديد، خرجت أجوب شوارع وأزقة مدينة باريس. أبحث بين طياتها عن أحلام أناس ضاعت منذ زمن بعيد.. وهناك على الرصيف لمحت جسدا يفترش أرضية مبتلة بدموع السماء، غطاؤه أسمال تدل على فقر شديد بها ثقوب تحسبها جحور نمل وبراغيث.. اقتربت وهمست : قم أيها الصغير.

نهض فزعا يتصدد عن اليمين وعن الشمال وكأنه محاصر بين ذئاب جائعة وثعابين، نزعت معطفي وألبسته إياه، وعاد إليه بريق عينيه ورأيت ابتسامة بريئة على خديه، وعاد ليغط في نومه من جديد وكأنه بدفء المعطف أحس بحنان الأم التي لا أعرف كيف ؟ و لا أين؟ ولا متى فارق أحضانه .. تركته مكملة طريقي أبحث عن حلم آخر تبخر في الهواء واختلط مع نسيم البرد العليل..

وهناك على الرصيف الآخر، رأيت فتيات أغلبهن في عمر الزهور كاسيات عاريات رغم قسوة البرد والرياح، حمرة شفاهن ترى للرائي كأنها حبات فراولة في فصل الربيع.. أجسادهن النحيلة وثيابهن المثيرة توحي بأنهن بائعات هوى تنتظر كل منهن سكيرها الرعديد ليخبرها أحبك، غير أن أمثاله لا يعرفون معنى للحب حتى في يوم العيد، وذلك حتى يمسك يدها يأخذها لعالمه المرير، وبعد طلوع الفجر وصياح الديك يعلن عن يوم جديد يرمي إليها دراهم بخسة لتشتري رغيف خبز جاف تسد به رمق السنين.

تنهدت تنهيدة حزن على مآسيهم وأتممت طريقي نحو مقهى في آخر الشارع، لأتجرع كأس قهوة علني أزيل مرارة ما رأيته أمام ناظري.

جلست أحتسي قهوتي، فإذا بي أرى جسدا صغيرا ذا خصر نحيل وشعر أسود منسدل على الكتفين، بفستان أحمر شاحب، فتاة ذات بشرة بيضاء لفحتها شمس الصيف الماضي، تحمل بين يديها علب مناديل.. تقدمت لشاب جالس على طاولة بمقربة مني محاولة أن تبيع له ما بحوزتها، فكان صوته أقوى من صوت التلفاز في المقهى، فدفعها قائلا : ابتعدي أيتها المتشردة، همت الفتاة بالخروج لكن جاء صوتي كعلامة قف، ناديتها اقتربت، فإذا بي اشتري علب المنادي، فتحت منها واحدة أخرجت منديلا مسحت به دموعها المنصهرة فأخبرتها : من أنت ؟

أجابت والدموع تكاد تنزل من مقلتيها :أنا ! من أكون ؟ لا هوية لدي ، أعيش بين أزقة الشوارع  كل ليلة أنام في زقاق.. من أنا ؟ أنا فتاة كل من رآها تجاهلها وقال عنها متشردة ضالة، أنا التي حلمت كل للة بأربعة جدران وسقف يقيني حر الصيف وبرد الشتاء، أنا من تمنيت يوما أن أنام مثخنة بالأكل..أنا من انتقلتْ بين سياراتكم تزيل غبارا أيامكم، أنا من ترى بسمة على شفاه طفل فتقول : يا ليتني كنت مكانه أنا هي أنا .

تمعنت النظر كثيرا في عينيها الجميلتين، وأطرقت رأسي وخرجت مسرعة نحو المنزل ، في طريق بدا أنه لا منتهي ، أخيرا وجدت نفسي أمام غرفتي، أغلقت الباب خلفي توجهت نحو مكتبي ففتحت ملف بحثي فوضعت حروفا نسجت منها عنوانا “رحلة في شوارع باريس “.

 


شاهد أيضا
تعليقات الزوار
Loading...